الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَهُوَ تَمَامٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَجْتَمِعَانِ كِلَاهُمَا نَاقِصٌ الشرح: قوله: (باب شهرا عيد لا ينقصان) هكذا ترجم ببعض لفظ الحديث، وهذا القدر لفظ طريق لحديث الباب عند الترمذي من رواية بشر بن المفضل عن خالد الحذاء. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثَنِي مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ شَهْرَانِ لَا يَنْقُصَانِ شَهْرَا عِيدٍ رَمَضَانُ وَذُو الْحَجَّةِ الشرح: قوله: (حدثنا مسدد حدثنا معتمر) فساق الإسناد ثم قال: " وحدثني مسدد قال حدثنا معتمر " فساقه بإسناد آخر لمسدد وساق المتن على لفظ الرواية الثانية، وكأن النكتة في كونه لم يجمع الإسنادين معا مع أنهما لم يتغايرا إلا في شيخ معتمر أن مسددا حدثه به مرة ومعه غيره عن معتمر عن إسحاق، وحدثه به مرة أخرى إما وهو وحده وإما بقراءته عليه عن معتمر عن خالد، ولمسدد فيه شيخ آخر أخرجه أبو داود عنه عن يزيد بن زريع عن خالد وهو محفوظ عن خالد الحذاء من طرق. وأما قول قاسم في " الدلائل ": سمعت موسى بن هارون يحدث بهذا الحديث عن العباس بن الوليد عن يزيد بن زريع مرفوعا، قال موسى وأنا أهاب رفعه، فإن لم يحمل على أن يزيد بن زريع كان ربما وقفه وإلا فليس لمهابة رفعه معنى. وأما لفظ إسحاق العدوي فأخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريق أبي خليفة وأبي مسلم الكجي جميعا عن مسدد بهذا الإسناد بلفظ " لا ينقص رمضان ولا ينقص ذو الحجة " وأشار الإسماعيلي أيضا إلى أن هذا اللفظ لإسحاق العدوي، لكن أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن محمد بن يحيى عن مسدد بلفظ " شهرا عيدا لا ينقصان " كما هو لفظ الترجمة، وكأن هذا هو السر في اقتصار البخاري على سياق المتن على لفظ خالد دون إسحاق لكونه لم يختلف في سياقه عليه، وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث: فمنهم من حمله على ظاهره فقال لا يكون رمضان ولا ذو الحجة أبدا إلا ثلاثين، وهذا قول مردود معاند للموجود المشاهد، ويكفي في رده قوله صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة " فإنه لو كان رمضان أبدا ثلاثين لم يحتج إلى هذا. ومنهم من تأول له معنى لائقا. وقال أبو الحسن كان إسحاق بن راهويه يقول: لا ينقصان في الفضيلة إن كانا تسعة وعشرين أو ثلاثين. انتهى. وقيل لا ينقصان معا، إن جاء أحدهما تسعا وعشرين جاء الآخر ثلاثين ولا بد. وقيل لا ينقصان في ثواب العمل فيهما، وهذان القولان مشهوران عن السلف وقد ثبتا منقولين في أكثر الروايات في البخاري، وسقط ذلك في رواية أبي ذر وفي رواية النسفي وغيره عقب الترجمة قبل سياق الحديث. قال إسحاق: وإن كان ناقصا فهو تمام. وقال محمد: لا يجتمعان كلاهما ناقص. وإسحاق هذا هو ابن راهويه، ومحمد هو البخاري المصنف. ووقع عند الترمذي نقل القولين عن إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل، وكأن البخاري اختار مقالة أحمد فجزم بها أو توارد عليها. قال الترمذي قال أحمد: معناه لا ينقصان معا في سنة واحدة انتهى. ثم وجدت في نسخة الصغاني ما نصه عقب الحديث: قال أبو عبد الله قال إسحاق تسعة وعشرون يوما تام. وقال أحمد بن حنبل إن نقص رمضان تم ذو الحجة، وإن نقص ذو الحجة تم رمضان. وقال إسحاق: معناه وإن كان تسعا وعشرين فهو تمام غير نقصان. قال: وعلى مذهب إسحاق يجوز أن ينقصا معا في سنة واحدة. وروى الحاكم في تاريخه بإسناد صحيح أن إسحاق بن إبراهيم سئل عن ذلك فقال: إنكم ترون العدد ثلاثين فإذا كان تسعا وعشرين ترونه نقصانا وليس ذلك بنقصان. ووافق أحمد على اختياره أبو بكر أحمد بن عمرو البزار فأوهم مغلطاي أنه مراد الترمذي بقوله " وقال أحمد " وليس كذلك، وإنما ذكره قاسم في " الدلائل " عن البزار فقال: سمعت البزار يقول معناه لا ينقصان جميعا في سنة واحدة. قال: ويدل عليه رواية زيد بن عقبة عن سمرة ابن جندب مرفوعا " شهرا عيد لا يكونان ثمانية وخمسين يوما " وادعى مغلطاي أيضا أن المراد بإسحاق إسحاق ابن سويد العدوي راوي الحديث، ولم يأت على ذلك بحجة. وذكر ابن حبان لهذا الحديث معنيين: أحدهما ما قاله إسحاق، والآخر أن المراد أنهما في الفضل سواء لقوله في الحديث الآخر " ما من أيام العمل فيها أفضل من عشر ذي الحجة " وذكر القرطبي أن فيه خمسة أقوال فذكر نحو ما تقدم وزاد أن معناه لا ينقصان في عام بعينه وهو العام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم تلك المقالة. وهذا حكاه ابن بزيزة ومن قبله أبو الوليد ابن رشد ونقله المحب الطبري عن أبي بكر بن فورك، وقيل: المعنى لا ينقصان في الأحكام، وبهذا جزم البيهقي وقبله الطحاوي فقال: معنى لا ينقصان أن الأحكام فيهما وإن كانا تسعة وعشرين متكاملة غير ناقصة عن حكمهما إذا كانا ثلاثين. وقيل معناه لا ينقصان في نفس الأمر لكن ربما حال دون رؤية الهلال مانع، وهذا أشار إليه ابن حبان أيضا. ولا يخفى بعده. وقيل معناه لا ينقصان معا في سنة واحدة على طريق الأكثر الأغلب وإن ندر وقوع ذلك، وهذا أعدل مما تقدم لأنه ربما وجد وقوعهما ووقوع كل منهما تسعة وعشرين قال الطحاوي: الأخذ بظاهره أو حمله على نقص أحدهما يدفعه العيان لأنا قد وجدناهما ينقصان معا في أعوام. وقال الزين بن المنير: لا يخلو شيء من هذه الأقوال عن الاعتراض، وأقربها أن المراد أن النقص الحسي باعتبار العدد ينجبر بأن كلا منهما شهر عيد عظيم فلا ينبغي وصفهما بالنقصان، بخلاف غيرهما من الشهور. وحاصله يرجع إلى تأييد قول إسحاق. وقال البيهقي في " المعرفة " إنما خصهما بالذكر لتعلق حكم الصوم والحج بهما، وبه جزم النووي وقال: إنه الصواب المعتمد. والمعنى أن كل ما ورد عنهما من الفضائل والأحكام حاصل سواء كان رمضان ثلاثين أو تسعا وعشرين، سواء صادف الوقوف اليوم التاسع أو غيره. ولا يخفى أن محل ذلك ما إذا لم يحصل تقصير في ابتغاء الهلال، وفائدة الحديث رفع ما يقع في القلوب من شك لمن صام تسعا وعشرين أو وقف في غير يوم عرفة. وقد استشكل بعض العلماء إمكان الوقوف في الثامن اجتهادا، وليس مشكلا لأنه ربما ثبتت الرؤية بشاهدين أن أول ذي الحجة الخميس مثلا فوقفوا يوم الجمعة، ثم تبين أنهما شهدا زورا. وقال الطيبي: ظاهر سياق الحديث بيان اختصاص الشهرين بمزية ليست في غيرهما من الشهور، وليس المراد أن ثواب الطاعة في غيرهما ينقص، وإنما المراد رفع الحرج عما عسى أن يقع فيه خطأ في الحكم لاختصاصهما بالعيدين وجواز احتمال وقوع الخطأ فيهما، ومن ثم قال " شهرا عيد " بعد قوله " شهران لا ينقصان " ولم يقتصر على قوله رمضان وذي الحجة انتهى. وفي الحديث حجة لمن قال إن الثواب ليس مرتبا على وجود المشقة دائما، بل لله أن يتفضل بإلحاق الناقص بالتام في الثواب. واستدل به بعضهم لمالك في اكتفائه لرمضان بنية واحدة قال: لأنه جعل الشهر بجملته عبادة واحدة فاكتفى له بالنية، وهذا الحديث يقتضي أن التسوية في الثواب بين الشهر الذي يكون تسعا وعشرين وبين الشهر الذي يكون ثلاثين إنما هو بالنظر إلى جعل الثواب متعلقا بالشهر من حيث الجملة لا من حيث تفضيل الأيام. وأما ما ذكره البزار من رواية زيد بن عقبة عن سمرة بن جندب فإسناده ضعيف، وقد أخرجه الدار قطني في " الأفراد " والطبراني من هذا الوجه بلفظ " لا يتم شهران ستين يوما " وقال أبو الوليد ابن رشد: إن ثبت فمعناه لا يكونان ثمانية وخمسين في الأجر والثواب وروى الطبراني حديث الباب من طريق هشيم عن خالد الحذاء بسنده هذا بلفظ " كل شهر حرام لا ينقص ثلاثون يوما وثلاثون ليلة " وهذا بهذا اللفظ شاذ، والمحفوظ عن خالد ما تقدم، وهو الذي توارد عليه الحفاظ من أصحابه كشعبة وحماد ابن زيد ويزيد بن زريع وبشر بن المفضل وغيرهم. وقد ذكر الطحاوي أن عبد الرحمن بن إسحاق روى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي بكرة بهذا اللفظ، قال الطحاوي: وعبد الرحمن بن إسحاق لا يقاوم خالدا الحذاء في الحفظ. قلت: فعلى هذا فقد دخل لهشيم حديث في حديث، لأن اللفظ الذي أورده عن خالد هو لفظ عبد الرحمن. وقال ابن رشد: إن صح فمعناه أيضا في الأجر والثواب. قوله: (رمضان وذو الحجة) أطلق على رمضان أنه شهر عيد لقربه من العيد، أو لكون هلال العيد ربما رؤي في اليوم الأخير من رمضان قاله الأثرم، والأول أولى. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم "المغرب وتر النهار " أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، وصلاة المغرب ليلية جهرية، وأطلق كونها وتر النهار لقربها منه. وفيه إشارة إلى أن وقتها يقع أول ما تغرب الشمس. (تنبيه) : ليس لإسحاق بن سويد - وهو ابن هبيرة البصري العدوي عديى مضر، وهو تابعي صغير روى هنا عن تابعي كبير - في البخاري سوى هذا الحديث الواحد. وقد أخرجه مقرونا بخالد الحذاء وقد رمي بالنصب، وذكره ابن العربي في الضعفاء بهذا السبب. *3* الشرح: قوله: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نكتب ولا نحسب) بالنون فيهما، والمراد أهل الإسلام الذين بحضرته عند تلك المقالة، وهو محمول على أكثرهم أو المراد نفسه صلى الله عليه وسلم. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ الشرح: قوله: (الأسود بن قيس) هو الكوفي تابعي صغير، وشيخه سعيد بن عمرو أي ابن سعيد بن العاص، مدني سكن دمشق ثم الكوفة تابعي شهير، سمع عائشة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة، ففي الإسناد تابعي عن تابعي كالذي قبله. قوله: (إنا) أي العرب، وقيل أراد نفسه. و قوله: (أمية) بلفظ النسب إلى الأم فقيل أراد أمة العرب لأنها لا تكتب، أو منسوب إلى الأمهات أي أنهم على أصل ولادة أمهم، أو منسوب إلى الأم لأن المرأة هذه صفتها غالبا، وقيل منسوبون إلى أم القرى، و قوله: (لا نكتب ولا نحسب) تفسير لكونهم كذلك، وقيل للعرب أميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة. قال الله تعالى قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم. وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها إلا القليل. قوله: (الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين) هكذا ذكره آدم شيخ البخاري مختصرا، وفيه اختصار عما رواه غندر عن شعبة، أخرجه مسلم عن ابن المثنى وغيره عنه بلفظ " الشهر هكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة، والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين " أي أشار أولا بأصابع يديه العشر جميعا مرتين وقبض الإبهام في المرة الثالثة وهذا المعبر عنه بقوله تسع وعشرون، وأشار مرة أخرى بهما ثلاث مرات وهو المعبر عنه بقوله ثلاثون. وفي رواية جبلة بن سحيم عن ابن عمر في الباب الماضي " الشهر هكذا وهكذا وخنس الإبهام في الثالثة". ووقع من هذا الوجه عند مسلم بلفظ " الشهر هكذا وهكذا وصفق بيديه مرتين بكل أصابعه وقبض في الصفقة الثالثة إبهام اليمنى أو اليسرى"، وروى أحمد وابن أبي شيبة واللفظ له من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن ابن عمر رفعه " الشهر تسع وعشرون ثم طبق بين كفيه مرتين وطبق الثالثة فقبض الإبهام. قال فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، إنما هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا فنزل لتسع وعشرين، فقيل له فقال: إن الشهر يكون تسعا وعشرين وشهر ثلاثون. قال ابن بطال: في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف. ولا شك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف. وفي الحديث مستند لمن رأى الحكم بالإشارة، قلت وسيأتي في كتاب الطلاق. *3* الشرح: قوله: (باب لا يتقدم) بضم أوله وفتح ثانيه ويجوز فتحهما، أي المكلف. قوله: (لا يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين) أي لا يتقدم رمضان بصوم يوم يعد منه بقصد الاحتياط له فإن صومه مرتبط بالرؤية فلا حاجة إلى التكلف، واكتفى في الترجمة عن ذلك لتصريح الخبر به. الحديث: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ الشرح: قوله: (هشام) هو الدستوائي. قوله: (عن أبي سلمة عن أبي هريرة) في رواية خالد بن الحارث عن هشام عند الإسماعيلي " حدثني أبو سلمة حدثني أبو هريرة"، ونحوه لأبي عوانة من طريق معاوية بن سلام عن يحيى. قوله: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم) في رواية أبي داود عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه " لا تقدموا صوم رمضان بصوم " وفي رواية خالد بن الحارث المذكورة " لا تقدموا بين يدي رمضان بصوم " ولأحمد عن روح عن هشام " لا تقدموا قبل رمضان بصوم " وللترمذي من طريق علي بن المبارك عن يحيى لا تقدموا شهر رمضان بصيام قبله. قوله: (إلا أن يكون رجل) كان تامة، أي إلا أن يوجد رجل. قوله: (يصوم صوما) وفي رواية الكشميهني " صومه فليصم ذلك اليوم " وفي رواية معمر عن يحيى عند أحمد إلا رجل كان يصوم صياما فيأتي على صيامه " ونحوه لأبي عوانة من طريق أيوب عن يحيى. وفي رواية أحمد عن روح " إلا رجل كان يصوم صياما فليصله به " وللترمذي وأحمد من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة " إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم " قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي لما أخرجه: العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان ا هـ. والحكمة فيه التقوى بالفطر لرمضان ليدخل فيه بقوة ونشاط، وهذا فيه نظر لأن مقتضى الحديث أنه لو تقدمه بصيام ثلاثة أيام أو أربعة جاز، وسنذكر ما فيه قريبا، وقيل الحكمة فيه خشية اختلاط النفل بالفرض، وفيه نظر أيضا لأنه يجوز لمن له عادة كما في الحديث، وقيل لأن الحكم علق بالرؤية فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم وهذا هو المعتمد، ومعنى الاستثناء أن من كان له ورد فقد أذن له فيه لأنه اعتاده وألفه وترك المألوف شديد وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويلتحق بذلك القضاء والنذر لوجوبهما قال بعض العلماء: يستثنى القضاء والنذر بالأدلة القطعية على وجوب الوفاء بهما فلا يبطل القطعي بالظن، وفي الحديث رد على من يرى تقديم الصوم على الرؤية كالرافضة، ورد على من قال بجواز صوم النفل المطلق، وأبعد من قال: المراد بالنهي التقدم بنية رمضان، واستدل بلفظ التقدم لأن التقدم على الشيء بالشيء إنما يتحقق إذا كان من جنسه، فعلى هذا يجوز الصيام بنية النفل المطلق، لكن السياق يأبى هذا التأويل ويدفعه. وفيه بيان لمعنى قوله في الحديث الماضي " صوموا لرؤيته " فإن اللام فيه للتأقيت لا للتعليل. قال ابن دقيق العيد: ومع كونها محمولة على التأقيت فلا بد من ارتكاب مجاز لأن وقت الرؤية - وهو الليل - لا يكون محل الصوم. وتعقبه الفاكهي بأن المراد بقوله " صوموا " انووا الصيام، والليل كله ظرف للنية. قلت: فوقع في المجاز الذي فر منه، لأن الناوي ليس صائما حقيقة بدليل أنه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى أن يطلع الفجر، وفيه منع إنشاء الصوم قبل رمضان إذا كان لأجل الاحتياط، فإن زاد على ذلك فمفهومه الجواز، وقيل يمتد المنع لما قبل ذلك وبه قطع كثير من الشافعية، وأجابوا عن الحديث بأن المراد منه التقديم بالصوم فحيث وجد منع، وإنما اقتصر على يوم أو يومين لأنه الغالب ممن يقصد ذلك. وقالوا أمد المنع من أول السادس عشر من شعبان لحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا " أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره. وقال الروياني من الشافعية: يحرم التقدم بيوم أو يومين لحديث الباب. ويكره التقدم من نصف شعبان للحديث الآخر. وقال جمهور العلماء: يجوز الصوم تطوعا بعد النصف من شعبان وضعفوا الحديث الوارد فيه. وقال أحمد وابن معين إنه منكر، وقد استدل البيهقي بحديث الباب على ضعفه فقال: الرخصة في ذلك بما هو أصح من حديث العلاء، وكذا صنع قبله الطحاوي. واستظهر بحديث ثابت عن أنس مرفوعا " أفضل الصيام بعد رمضان شعبان " لكن إسناده ضعيف، واستظهر أيضا بحديث عمران بن حصين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: هل صمت من سرر شعبان شيئا؟ قال: لا. قال: فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين " ثم جمع بين الحديثين بأن حديث العلاء محمول على من يضعفه الصوم، وحديث الباب مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان، وهو جمع حسن، والله أعلم. *3* عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ الشرح: قوله: (باب قول الله عز وجل: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم - إلى قوله - ما كتب الله لكم) كذا في رواية أبي ذر، وساق غيره الآية كلها، والمراد بهذه الترجمة بيان ما كان الحال عليه قبل نزول هذه الآية. ولما كانت هذه الآية منزلة على أسباب تتعلق بالصيام عجل بها المصنف. وقد تعرض لها في التفسير أيضا كما سيأتي. ويؤخذ من حاصل ما استقر عليه الحال من سبب نزولها ابتداء مشروعية السحور وهو المقصود في هذا المكان لأنه جعل هذه الترجمة مقدمة لأبواب السحور. الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا أَعِنْدَكِ طَعَامٌ قَالَتْ لَا وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ خَيْبَةً لَكَ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا وَنَزَلَتْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ الشرح: قوله: (عن أبي إسحاق) هو السبيعي، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق المذكور، وقد رواه الإسماعيلي من طريق يوسف بن موسى وغيره عن عبيد الله بن موسى شيخ البخاري فيه عن إسرائيل وزهير هو ابن معاوية كلاهما عن أبي إسحاق عن البراء زاد فيه ذكر زهير وساقه على لفظ إسرائيل، وقد رواه الدارمي وعبيد بن حميد في مسنديهما عن عبيد الله بن موسى فلم يذكرا زهيرا، وقد أخرجه النسائي من وجه آخر عن زهير به. قوله: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) أي في أول افتراض الصيام، وبين ذلك ابن جرير في روايته من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا. قوله: (فنام قبل أن يفطر الخ) في رواية زهير " كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئا ولا يشرب ليله ويومه حتى تغرب الشمس " ولأبي الشيخ من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق " كان المسلمون إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا لم يفعلوا شيئا من ذلك إلى مثلها " فاتفقت الروايات في حديث البراء على أن المنع من ذلك كان مقيدا بالنوم، وهذا هو المشهور في حديث غيره، وقيد المنع من ذلك في حديث ابن عباس بصلاة العتمة، أخرجه أبو داود بلفظ " كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة " ونحوه في حديث أبي هريرة كما سأذكره قريبا، وهذا أخص من حديث البراء من وجه آخر، ويحتمل أن يكون ذكر صلاة العشاء لكون ما بعدها مظنة النوم غالبا، والتقييد في الحقيقة إنما هو بالنوم كما في سائر الأحاديث، وبين السدي وغيره أن ذلك الحكم كان على وفق ما كتب على أهل الكتاب كما أخرجه ابن جرير من طريق السدي ولفظه " كتب على النصارى الصيام، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا بعد النوم، وكتب على المسلمين أولا مثل ذلك حتى أقبل رجل من الأنصار " فذكر القصة. ومن طريق إبراهيم التيمي " كان المسلمون في أول الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب: إذا نام أحدهم لم يطعم حتى القابلة " ويؤيد هذا ما أخرجه مسلم من حديث عمرو بن العاص مرفوعا " فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر". قوله: (وإن قيس بن صرمة) بكسر الصاد المهملة وسكون الراء هكذا سمي في هذه الرواية، ولم يختلف على إسرائيل فيه إلا في رواية أبي أحمد الزبيري عنه فإنه قال " صرمة بن قيس " أخرجه أبو داود، ولأبي نعيم في " المعرفة " من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثله، قال وكذا رواه أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس، ووقع عند أحمد والنسائي من طريق زهير عن أبي إسحاق أنه " أبو قيس ابن عمرو " وفي حديث السدي المذكور " حتى أقبل رجل من الأنصار يقال له أبو قيس بن صرمة " ولابن حرير من طريق ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان بفتح المهملة وبالموحدة الثقيلة مرسلا " صرمة بن أبي أنس " ولغير ابن جرير من هذا الوجه " صرمة بن قيس " كما قال أبو أحمد الزبيري، وللذهلي في " الزهريات " من مرسل القاسم بن محمد " صرمة بن أنس " ولابن جرير من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى " صرمة بن مالك " والجمع بين هذه الروايات أنه أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، كذا نسبه ابن عبد البر وغيره، فمن قال قيس بن صرمة قلبه كما جزم الداودي والسهيلي وغيرهما بأنه وقع مقلوبا في رواية حديث الباب، ومن قال صرمة بن مالك نسبه إلى جده، ومن قال صرمة بن أنس حذف أداة الكنية من أبيه، ومن قال أبو قيس بن عمرو أصاب كنيته وأخطأ في اسم أبيه، وكذا من قال أبو قيس بن صرمة، وكأنه أراد أن يقول أبو قيس صرمة فزاد فيه ابن، وقد صحفه بعضهم فرويناه في " جزء إبراهيم بن أبي ثابت " من طريق عطاء عن أبي هريرة قال " كان المسلمون إذا صلوا العشاء حرم عليهم الطعام والشراب والنساء، وأن ضمرة بن أنس الأنصاري غلبته عينه " الحديث. وقد استدرك ابن الأثير في الصحابة ضمرة بن أنس في حرف الضاد المعجمة على من تقدمه، وهو تصحيف وتحريف ولم يتنبه له والصواب صرمة بن أبي أنس كما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. وصرمة بن أبي أنس مشهور في الصحابة يكنى أبا قيس. قال ابن إسحاق فيما أخرجه السراج في تاريخه من طريقه بإسناده إلى عويم بن ساعدة قال: قال صرمة بن أبي أنس وهو يذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى صديقا مؤاتيا الأبيات. قال ابن إسحاق: وصرمة هذا هو الذي نزل فيه (كلوا واشربوا) الآية. قال: وحدثني محمد ابن جعفر بن الزبير قال: كان أبو قيس ممن فارق الأوثان في الجاهلية، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم وهو شيخ كبير، وهو القائل: يقول أبو قيس وأصبح غاديا ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا الأبيات. قوله: (فقال لها أعندك) بكسر الكاف (طعام؟ قالت لا، ولكن أنطلق أطلب لك) ظاهره أنه لم يجئ معه بشيء، لكن في مرسل السدي أنه أتاها بتمر فقال: استبدلي به طحينا واجعليه سخينا، فإن التمر أحرق جوفي. وفيه: لعلي آكله سخنا، وأنها استبدلته له وصنعته. وفي مرسل ابن أبي ليلى: فقال لأهله أطعموني. فقالت: حتى أجعل لك شيئا سخينا. ووصله أبو داود من طريق ابن أبي ليلى فقال " حدثنا أصحاب محمد " فذكره مختصرا. قوله: (وكان يومه) بالنصب (يعمل) أي في أرضه، وصرح بها أبو داود في روايته. وفي مرسل السدي " كان يعمل في حيطان المدينة بالأجرة " فعلى هذا فقوله " في أرضه " إضافة اختصاص. قوله: (فغلبته عيناه) أي نام، وللكشميهني " عينه " بالإفراد. قوله: (فقالت خيبة لك) بالنصب وهو مفعول مطلق محذوف العامل، وقيل إذا كان بغير لام يجب نصبه وإلا جاز. والخيبة الحرمان يقال خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب. قوله: (فلما انتصف النهار غشي عليه) في رواية أحمد " فأصبح صائما، فلما انتصف النهار " وفي رواية أبي داود " فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه " فيحمل الأول على أن الغشي وقع في آخر النصف الأول من النهار. وفي رواية زهير عن أبي إسحاق " فلم يطعم شيئا وبات حتى أصبح صائما حتى انتصف النهار فغشي عليه " وفي مرسل السدي " فأيقظته، فكره أن يعصي الله وأبى أن يأكل " وفي مرسل محمد بن يحيى " فقالت له كل، فقال إني قد نمت. فقالت لم تنم. فأبى فأصبح جائعا مجهودا". قوله: (فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية زكريا عند أبي الشيخ " وأتى عمر امرأته وقد نامت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم". قوله: (فنزلت هذه الآية قلت: وهذا هو المعتمد، وبه جزم السهيلي وقال: إن الآية بتمامها نزلت في الأمرين معا وقدم ما يتعلق بعمر لفضله. قلت: وقد وقع في رواية أبي داود فنزلت *3* ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ فِيهِ الْبَرَاءُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب قول الله عز وجل: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم) ساق إلى قوله: (إلى الليل) وهذه الترجمة سيقت لبيان انتهاء وقت الأكل وغيره الذي أبيح بعد أن كان ممنوعا، واستفيد من حديث سهل الذي في هذا الباب أن ذكر نزول الآية في حديث البراء أريد به معظمها وهو أن قوله: (من الفجر) تأخر نزوله عن بقية الآية مع أنه ليس في حديث البراء التصريح بأن قوله: (من الفجر) نزل أولا فإن رواية حديث الباب فيها إلى قوله: (الخيط الأسود) ورواية أبي داود وأبي الشيخ فيها إلى قوله: (من الفجر) فيحمل الثاني على أن قوله: (من الفجر) لم يدخل في الغاية. قوله: (فيه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم) يريد الحديث الذي مضى قبله وهو موصول كما تقدم. ثم أورد المصنف في الباب حديثين: الحديث: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أَخْبَرَنِي حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ الشرح: قوله: (أخبرني حصين) ، روى الطحاوي من طريق إسماعيل بن سالم عن هشيم أنبأنا حصين ومجالد، وكذا أخرجه الترمذي عن أحمد بن منيع عن هشيم إلا أنه فرقهما. قوله: (عن عدي بن حاتم) في رواية الترمذي " أخبرني عدي بن حاتم " وكذا أخرجه ابن خزيمة عن أحمد بن منيع، وهكذا أورده أبو عوانة من طريق أبي عبيد عن هشيم عن حصين. قوله: (لما نزلت: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود. عمدت الخ) ظاهره أن عديا كان حاضرا لما نزلت هذه الآية، وهو يقتضي تقدم إسلامه، وليس كذلك لأن نزول فرض الصوم كان متقدما في أوائل الهجرة، وإسلام عدي كان في التاسعة أو العاشرة كما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، فإما أن يقال إن الآية التي في حديث الباب تأخر نزولها عن نزول فرض الصوم وهو بعيد جدا، وإما أن يؤول قول عدي هذا على أن المراد بقوله " لما نزلت " أي لما تليت علي عند إسلامي، أو لما بلغني نزول الآية أو في السياق حذف تقديره لما نزلت الآية ثم قدمت فأسلمت وتعلمت الشرائع عمدت، وقد روى أحمد حديثه من طريق مجالد بلفظ " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والصيام فقال: صل كذا وصم كذا، فإذا غابت الشمس فكل حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود. قال: فأخذت خيطين " الحديث. قوله: (إلى عقال) بكسر المهملة أي حبل وفي رواية مجالد " فأخذت خيطين من شعر". قوله: (فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي) في رواية مجالد " فلا أستبين الأبيض من الأسود". قوله: (فقال إنما ذلك) زاد أبو عبيد " إن وسادك إذا لعريض " وكذا لأحمد عن هشيم، وللإسماعيلي عن يوسف القاضي عن محمد بن الصباح عن هشيم " قال فضحك وقال: إن كان وسادك إذا لعريضا " وهذه الزيادة أوردها المصنف في تفسير البقرة من طريق أبي عوانة عن حصين وزاد " إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك " وفي رواية أبي إدريس عن حصين عند مسلم " إن وسادك لعريض طويل " وللمصنف في التفسير من طريق جرير عن مطرف عن الشعبي " إنك لعريض القفا " ولأبي عوانة من طريق إبراهيم بن طهمان عن مطرف " فضحك وقال: لا يا عريض القفا " قال الخطابي في " المعالم " في قوله " إن وسادك لعريض " قولان: أحدهما يريد أن نومك لكثير، وكنى بالوسادة عن النوم لأن النائم يتوسد، أو أراد أن ليلك لطويل إذا كنت لا تمسك عن الأكل حتى يتبين لك العقال، والقول الآخر أنه كنى بالوسادة عن الموضع الذي يضعه من رأسه وعنقه على الوسادة إذا نام، والعرب تقول فلان عريض القفا إذا كان فيه غباوة وغفلة، وقد روي في هذا الحديث من طريق أخرى " إنك عريض القفا " وجزم الزمخشري بالتأويل الثاني فقال: إنما عرض النبي صلى الله عليه وسلم قفا عدي لأنه غفل عن البيان، وعرض القفا مما يستدل به على قلة الفطنة، وأنشد في ذلك شعرا، وقد أنكر ذلك كثير منهم القرطبي فقال: حمله بعض الناس على الذم له على ذلك الفهم وكأنهم فهموا أنه نسبه إلى الجهل والجفاء وعدم الفقه، وعضدوا ذلك بقوله " إنك عريض القفا " وليس الأمر على ما قالوه لأن من حمل اللفظ على حقيقته اللسانية التي هي الأصل إن لم يتبين له دليل التجوز لم يستحق ذما ولا ينسب إلى جهل، وإنما عنى والله أعلم أن وسادك إن كان يغطي الخيطين اللذين أراد الله فهو إذا عريض واسع، ولهذا قال في أثر ذلك: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار، فكأنه قال: فكيف يدخلان تحت وسادتك؟ وقوله " إنك لعريض القفا " أي إن الوساد الذي يغطي الليل والنهار لا يرقد عليه إلا قفا عريض للمناسبة. قلت: وترجم عليه ابن حبان " ذكر البيان بأن العرب تتفاوت لغاتها " وأشار بذلك إلى أن عديا لم يكن يعرف في لغته أن سواد الليل وبياض النهار يعبر عنهما بالخيط الأسود والخيط الأبيض. وساق هذا الحديث. قال ابن المنير في الحاشية: في حديث عدي جواز التوبيخ بالكلام النادر الذي يسير فيصير مثلا بشرط صحة القصد ووجود الشرط عند أمن الغلو في ذلك فإنه مزلة القدم إلا لمن عصمه الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ح حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ أُنْزِلَتْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَلَمْ يَنْزِلْ مِنْ الْفَجْرِ فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ مِنْ الْفَجْرِ فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ الشرح: قوله: (حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، وحدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو غسان حدثني أبو حازم) كذا أخرجه البخاري عن سعيد عن شيخين له، وأعاده في التفسير عن سعيد عن أبي غسان وحده، وظهر من سياقه أن اللفظ هنا لأبي غسان. وقد أخرجه ابن خزيمة عن الذهلي عن سعيد عن شيخيه وبين أبو نعيم في المستخرج أن لفظهما واحد. وقد أخرجه مسلم وابن أبي حاتم وأبو عوانة والطحاوي في آخرين من طريق سعيد عن أبي غسان وحده. قوله: (فكان رجال) لم أقف على تسمية أحد منهم، ولا يحسن أن يفسر بعضهم بعدي بن حاتم لأن قصة عدي متأخرة عن ذلك كما سبق ويأتي. قوله: (ربط أحدهم في رجليه) في رواية فضيل بن سليمان عن أبي حازم عند مسلم " لما نزلت هذه الآية جعل الرجل يأخذ خيطا أبيض وخيطا أسود فيضعهما تحت وسادته فينظر متى يستبينهما " ولا منافاة بينهما لاحتمال أن يكون بعضهم فعل هذا وبعضهم فعل هذا، أو يكونوا يجعلونهما تحت الوسادة إلى السحر فيربطونهما حينئذ في أرجلهم ليشاهدوهما. قوله: (حتى يتبين) كذا للأكثر بالتشديد، وللكشميهني " حتى يستبين " بفتح أوله وسكون المهملة والتخفيف. قوله: (رؤيتهما) كذا لأبي ذر. وفي رواية النسفي " رئيهما " بكسر أوله وسكون الهمزة وضم التحتانية، ولمسلم من هذا الوجه " زيهما " بكسر الزاي وتشديد التحتانية، قال صاحب " المطالع " ضبطت هذه اللفظة على ثلاثة أوجه ثالثها بفتح الراء وقد تكسر بعدها همزة ثم تحتانية مشددة. قال عياض: ولا وجه له إلا بضرب من التأويل، وكأنه رئي بمعنى مرئي، والمعروف أن الرئي التابع من الجن فيحتمل أن يكون من هذا الأصل لترائيه لمن معه من الإنس. قوله: (فأنزل الله بعد: من الفجر) قال القرطبي: حديث عدي يقتضي أن قوله: (من الفجر) زل متصلا بقوله: قال: وقد قيل إنه كان بين نزولهما عام كامل، قال: فأما عدي فحمل الخيط على حقيقته وفهم من قوله: (من الفجر) من أجل الفجر ففعل ما فعل. قال: والجمع بينهما أن حديث عدي متأخر عن حديث سهل، فكأن عديا لم يبلغه ما جرى في حديث سهل، وإنما سمع الآية مجردة ففهمها على ما وقع له فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بقوله: (من الفجر) أن ينفصل أحد الخيطين عن الآخر، وأن قوله: (من الفجر) متعلق بقوله " يتبين " قال: ويحتمل أن تكون القصتان في حالة واحدة وأن بعض الرواة - يعني في قصة عدي - تلا الآية تامة كما ثبت في القرآن وإن كان حال النزول إنما نزلت مفرقة كما ثبت في حديث سهل. قلت: وهذا الثاني ضعيف لأن قصة عدي متأخرة لتأخر إسلامه كما قدمته، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق أبي أسامة عن مجالد في حديث عدي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما أخبره بما صنع: يا ابن حاتم ألم أقل لك من الفجر " وللطبراني من وجه آخر عن مجالد وغيره " فقال عدي: يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظته غير الخيط الأبيض من الخيط الأسود، إني بت البارحة معي خيطان أنظر إلى هذا وإلى هذا، قال: إنما هو الذي في السماء " فتبين أن قصة عدي مغايرة لقصة سهل، فأما من ذكر في حديث سهل فحملوا الخيط على ظاهره، فلما نزل " من الفجر " علموا المراد فلذلك قال سهل في حديثه " فعلموا أنما يعني الليل والنهار " وأما عدي فكأنه لم يكن في لغة قومه استعارة الخيط للصبح، وحمل قوله: (من الفجر) على السببية فظن أن الغاية تنتهي إلى أن يظهر تمييز أحد الخيطين من الآخر بضياء الفجر، أو نسي قوله: (من الفجر) حتى ذكره بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الاستعارة معروفة عند بعض العرب، قال الشاعر: ولما تبدت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا قوله: (فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار) في رواية الكشميهني " فعلموا أنه يعني " وقد وقع في حديث عدي " سواد الليل وبياض النهار " ومعنى الآية حتى يظهر بياض النهار من سواد الليل، وهذا البيان يحصل بطلوع الفجر الصادق ففيه دلالة على أن ما بعد الفجر من النهار. وقال أبو عبيد: المراد بالخيط الأسود الليل وبالخيط الأبيض الفجر الصادق، والخيط اللون، وقيل المراد بالأبيض أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود، وبالأسود ما يمتد معه من غبش الليل شبيها بالخيط، قاله الزمخشري. قال: وقوله: (من الفجر) بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر. قال: ويجوز أن تكون " من " للتبعيض لأنه بعض الفجر، وقد أخرجه قوله: (من الفجر) من الاستعارة إلى التشبيه، كما أن قولهم رأيت أسدا مجاز فإذا زدت فيه من فلان رجع تشبيها. ثم قال: كيف جاز تأخير البيان وهو يشبه العبث لأنه قبل نزول (من الفجر) لا يفهم منه إلا الحقيقة وهي غير مرادة، ثم أجاب بأن من لا يجوزه - وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين - لم يصح عندهم حديث سهل، وأما من يجوزه فيقول ليس بعبث لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به. انتهى. ونقله في التجويز عن الأكثر فيه نظر كما سيأتي، وجوابه عنهم بعدم صحة الحديث مردود ولم يقل به أحد من الفريقين لأنه مما اتفق الشيخان على صحته وتلقته الأمة بالقبول، ومسألة تأخير البيان مشهورة في كتب الأصول، وفيها خلاف بين العلماء من المتكلمين وغيرهم، وقد حكى ابن السمعاني في أصل المسألة عن الشافعية أربعة أوجه: الجواز مطلقا عن ابن سريج والأصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران، والمنع مطلقا عن أبي إسحاق المروزي والقاضي أبي حامد والصيرفي، ثالثها جواز تأخير بيان المجمل دون العام. رابعها عكسه وكلاهما عن بعض الشافعية. وقال ابن الحاجب: تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع إلا عند مجوز تكليف ما لا يطاق، يعني وهم الأشاعرة فيجوزونه وأكثرهم يقولون لم يقع. قال شارحه: والخطاب المحتاج إلى البيان ضربان: أحدهما ماله ظاهر وقد استعمل في خلافه، والثاني ما لا ظاهر له فقال طائفة من الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية: يجوز تأخيره عن وقت الخطاب، واختاره الفخر الرازي وابن الحاجب وغيرهم، ومال بعض الحنفية والحنابلة كلهم إلى امتناعه. وقال الكرخي يمتنع في غير المجمل، وإذا تقرر ذلك فقد قال النووي تبعا لعياض: وإنما حمل الخيط الأبيض والأسود على ظاهرهما بعض من لا فقه عنده من الأعراب كالرجال الذين حكي عنهم سهل وبعض من لم يكن في لغته استعمال الخيط في الصبح كعدي، وادعى الطحاوي والداودي أنه من باب النسخ وأن الحكم كان أولا على ظاهره المفهوم من الخيطين، واستدل على ذلك بما نقل عن حذيفة وغيره من جواز الأكل إلى الإسفار، قال: ثم نسخ بعد ذلك بقوله تعالى (من الفجر) . قلت: ويؤيد ما قاله ما رواه عبد الرزاق بإسناد رجاله ثقات " أن بلالا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فقال: الصلاة يا رسول الله، قد والله أصبحت. فقال: يرحم الله بلالا، لولا بلال لرجونا أن يرخص لنا حتى تطلع الشمس " ويستفاد من هذا الحديث - كما قال عياض - وجوب التوقف عن الألفاظ المشتركة وطلب بيان المراد منها وأنها لا تحمل على أظهر وجوهها وأكثر استعمالاتها إلا عند عدم البيان. وقال ابن بزيزة في " شرح الأحكام ": ليس هذا من باب تأخير بيان المجملات، لأن الصحابة عملوا أولا على ما سبق إلى أفهامهم بمقتضى اللسان فعلى هذا فهو من باب تأخير ما له ظاهر أريد به خلاف ظاهره. قلت: وكلامه يقتضي أن جميع الصحابة فعلوا ما نقله سهل ابن سعد، وفيه نظر، واستدل بالآية والحديث على أن غاية الأكل والشرب طلوع الفجر فلو طلع الفجر وهو يأكل أو يشرب فنزع تم صومه، وفيه اختلاف بين العلماء. ولو أكل ظانا أن الفجر لم يطلع لم يفسد صومه عند الجمهور لأن الآية دلت على الإباحة إلى أن يحصل التبيين، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس قال " أحل الله لك الأكل والشرب ما شككت " ولابن أبي شيبة عن أبي بكر وعمر نحوه، وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي الضحى قال " سأل رجل ابن عباس عن السحور، فقال له رجل من جلسائه: كل حتى لا تشك، فقال ابن عباس: إن هذا لا يقول شيئا كل ما شككت حتى لا تشك " قال ابن المنذر: وإلى هذا القول صار أكثر العلماء. وقال مالك يقضي. وقال ابن بزيزة في " شرح الأحكام ": اختلفوا هل يحرم الأكل بطلوع الفجر أو بتبينه عند الناظر تمسكا بظاهر الآية، واختلفوا هل يجب إمساك جزء قبل طلوع الفجر أم لا بناء على الاختلاف المشهور في مقدمة الواجب، وسنذكر بقية هذا البحث في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنعنكم) كذا للأكثر، وللكشميهني " لا يمنعكم " بسكون العين بغير تأكيد، قال ابن بطال: لم يصح عند البخاري لفظ الترجمة؛ فاستخرج معناه من حديث عائشة. وقد روى لفظ الترجمة وكيع من حديث سمرة مرفوعا " لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق". وقال الترمذي: هو حديث حسن ا هـ. وحديث سمرة عند مسلم أيضا لكن لم يتعين في مراد البخاري، إنه قد صح أيضا على شرطه حديث ابن مسعود بلفظ " لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم " الحديث، وقد تقدم في أبواب الأذان في " باب الأذان قبل الفجر " وأخرج عنه حديث عبيد الله بن عمر عن شيخيه القاسم ونافع كما أخرجه هنا، فالظاهر أنه مراده بما ذكره في هذه الترجمة، وقد تقدم الكلام على حديث عبيد الله بن عمر هناك. وفي حديث سمرة الذي أخرجه مسلم بيان لما أبهم في حديث ابن مسعود، وذلك أن في حديث ابن مسعود " وليس الفجر أن يقول -. ورفع بأصابعه إلى فوق وطأطأ إلى أسفل - حتى يقول هكذا " وفي حديث سمرة عند مسلم " لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا " يعني معترضا. وفي رواية " ولا هذا البياض حتى يستطير " وقد تقدم لفظ رواية الترمذي، وله من حديث طلق بن علي " كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر " وقوله " يهيدنكم " بكسر الهاء أي يزعجنكم فتمتنعوا به عن السحور فإنه الفجر الكاذب، يقال هدته أهيده إذا أزعجته، وأصل الهيد بالكسر الحركة. ولابن أبي شيبة عن ثوبان مرفوعا " الفجر فجران: فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولكن المستطير " أي هو الذي يحرم الطعام ويحل الصلاة، وهذا موافق للآية الماضية في الباب قبله. وذهب جماعة من الصحابة - وقال به الأعمش من التابعين وصاحبه أبو بكر بن عياش - إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر، فروى سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن عاصم عن زر عن حذيفة قال " تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والله النهار غير أن الشمس لم تطلع " وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن عاصم نحوه، وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ذلك عن حذيفة من طرق صحيحة، وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر من طرق عن أبي بكر أنه أمر بغلق الباب حتى لا يرى الفجر، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن علي أنه صلى الصبح ثم قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. قال ابن المنذر: وذهب بعضهم إلى أن المراد بتبين بياض النهار من سواد الليل أن ينتشر البياض في الطرق والسكك والبيوت، ثم حكى ما تقدم عن أبي بكر وغيره. وروي بإسناد صحيح عن سالم بن عبيد الأشجعي - وله صحبة - أن أبا بكر قال له " أخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال فنظرت ثم أتيته فقلت: قد ابيض وسطع، ثم قال: أخرج فانظر هل طلع؟ فنظرت فقلت: قد اعترض. قال: الآن أبلغني شرابي " وروي من طريق وكيع عن الأعمش أنه قال " لولا الشهوة لصليت الغداة ثم تسحرت " قال إسحاق: هؤلاء رأوا جواز الأكل والصلاة بعد طلوع الفجر المعترض حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل. قال إسحاق: وبالقول الأول أقول، لكن لا أطعن على من تأول الرخصة كالقول الثاني ولا أرى له قضاء ولا كفارة. قلت: وفي هذا تعقب على الموفق وغيره حيث نقلوا الإجماع على خلاف ما ذهب إليه الأعمش، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ قَالَ الْقَاسِمُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانِهِمَا إِلَّا أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا الشرح: قوله: (عن ابن عمر والقاسم بن محمد) بالجر عطفا على نافع لا على ابن عمر، لأن عبيد الله بن عمر رواه عن نافع عن ابن عمر وعن القاسم عن عائشة، وقد تقدم الكلام عليه في المواقيت. الشرح: قوله: (باب تعجيل السحور) أي الإسراع بالأكل إشارة إلى أن السحور كان يقع قرب طلوع الفجر. وروى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه " كنا ننصرف - أي من صلاة الليل - فنستعجل بالطعام مخافة الفجر " قال ابن بطال ولو ترجم له بباب تأخير السحور لكان حسنا، وتعقبه مغلطاي بأنه وجد في نسخة أخرى من البخاري " باب تأخير السحور " ولم أر ذلك في شيء من نسخ البخاري التي وقعت لنا. وقال الزين بن المنير: التعجيل من الأمور النسبية، فإن نسب إلى أول الوقت كان معناه التقديم وإن نسب إلى آخره كان معناه التأخير، وإنما سماه البخاري تعجيلا إشارة منه إلى أن الصحابي كان يسابق بسحوره الفجر عند خوف طلوعه وخوف فوات الصلاة بمقدار ذهابه إلى المسجد. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (عن أبيه أبي حازم) أشار الإسماعيلي إلى أن عبد العزيز بن أبي حازم لم يسمعه من أبيه، فأخرج من طريق مصعب الزبيري عن أبي حازم عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن أبي حازم عن سهل، ثم رواه من طريق أخرى عن عبد الله بن عامر عن أبي حازم. وعبد الله بن عامر هو الأسلمي فيه ضعف، وأشار الإسماعيلي إلى تعليل الحديث بذلك. ومصعب بن عبد الله الزبيري لا يقاوم الحفاظ الذين رووه عن عبد العزيز عن أبيه بغير واسطة فزيادته شاذة، ويحتمل أن يكون عبد العزيز سمع من عبد الله بن عامر فيه عن أبيه زيادة لم تكن فيما سمعه من أبيه فلذلك حدث به تارة عن أبيه بلا واسطة وتارة بالواسطة. وقد أخرجه البخاري في المواقيت من وجه آخر عن أبي حازم فبطل التعليل برواية عبد العزيز بن أبي حازم، والله أعلم. قوله: (ثم تكون سرعتي) في رواية سليمان بن بلال " ثم تكون سرعة بي " وسرعة بالضم على أن كان تامة ولفظ " بي " متعلق بسرعة أو ليست تامة و " بي " الخبر أو قوله " أن أدرك"، ويجوز النصب على أنها خبر كان والاسم ضمير يرجع إلى ما يدل عليه لفظ السرعة. قوله: (أن أدرك السحور) كذا في رواية الكشميهني، وللنسفي والجمهور " أن أدرك السجود " وهو الصواب، ويؤيده أن في الرواية المتقدمة في المواقيت " أن أدرك صلاة الفجر " وفي رواية الإسماعيلي " صلاة الصبح " وفي رواية أخرى " صلاة الغداة". قال عياض: مراد سهل بن سعد أن غاية إسراعه أن سحوره لقربه من طلوع الفجر كان بحيث لا يكاد أن يدرك صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولشدة تغليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبح. وقال ابن المنير في الحاشية: المراد أنهم كانوا يزاحمون بالسحور الفجر فيختصرون فيه ويستعجلون خوف الفوات. (تنبيه) : قال المزي: ذكر خلف أن البخاري أخرج هذا الحديث في الصوم عن محمد بن عبيد الله وقتيبة كلاهما عن عبد العزيز، قال: ولم نجده في الصحيح ولا ذكره أبو مسعود. قلت: ورأيت هنا بخط القطب ومغلطاي " محمد بن عبيد " بغير إضافة، وهو غلط والصواب " محمد بن عبيد الله " وهو أبو ثابت المدني مشهور من كبار شيوخ البخاري. *3* الشرح: قوله: (باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر) أي انتهاء السحور وابتداء الصلاة، لأن المراد تقدير الزمان الذي ترك فيه الأكل، والمراد بفعل الصلاة أول الشروع فيها قاله الزين بن المنير. الحديث: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً الشرح: قوله: (حدثنا هشام) هو الدستوائي. قوله: (عن أنس) سبق في المواقيت من طريق سعيد عن قتادة قال " قلت لأنس". قوله: (قلت كم) هو مقول أنس، والمقول له زيد بن ثابت، وقد تقدم بيان ذلك في المواقيت وأن قتادة أيضا سأل أنسا عن ذلك، ورواه أحمد أيضا عن يزيد بن هارون عن همام وفيه أن أنسا قال " قلت لزيد " قوله: (قال قدر خمسين آية) أي متوسطة لا طويلة ولا قصيرة لا سريعة ولا بطيئة، وقدر بالرفع على أنه خبر المبتدأ، ويجوز النصب على أنه خبر كان المقدرة في جواب زيد لا في سؤال أنس لئلا تصير كان واسمها من قائل والخبر من آخر. قال المهلب وغيره: فيه تقدير الأوقات بأعمال البدن، وكانت العرب تقدر الأوقات بالأعمال كقوله: قدر حلب شاة، وقدر نحر جزور فعدل زيد بن ثابت عن ذلك إلى التقدير بالقراءة إشارة إلى أن ذلك الوقت كان وقت العبادة بالتلاوة، ولو كانوا يقدرون بغير العمل لقال مثلا قدر درجة أو ثلث خمس ساعة. وقال ابن أبي جمرة: فيه إشارة إلى أن أوقاتهم كانت مستغرقة بالعبادة. وفيه تأخير السحور لكونه أبلغ في المقصود. قال ابن أبي جمرة: كان صلى الله عليه وسلم ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله لأنه لو لم يتسحر لاتبعوه فيشق على بعضهم، ولو تسحر في جوف الليل لشق أيضا على بعضهم ممن يغلب عليه النوم فقد يفضي إلى ترك الصبح أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر. وقال: فيه أيضا تقوية على الصيام لعموم الاحتياج إلى الطعام ولو ترك لشق على بعضهم ولا سيما من كان صفراويا فقد يغشى عليه فيفضي إلى الإفطار في رمضان. قال: وفي الحديث تأنيس الفاضل أصحابه بالمؤاكلة، وجواز المشي بالليل للحاجة، لأن زيد بن ثابت ما كان يبيت مع النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه الاجتماع على السحور، وفيه حسن الأدب في العبارة لقوله " تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولم يقل نحن ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما يشعر لفظ المعية بالتبعية. وقال القرطبي: فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر، فهو معارض لقول حذيفة " هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع " انتهى، والجواب أن لا معارضة بل تحمل على اختلاف الحال، فليس في رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة، فتكون قصة حذيفة سابقة، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بإسناد هذا الحديث في المواقيت وكونه من مسند زيد بن ثابت أو من مسند أنس. *3* لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَاصَلُوا وَلَمْ يُذْكَرْ السَّحُورُ الشرح: قوله: (باب بركة السحور من غير إيجاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا ولم يذكر السحور) بضم " يذكر " على البناء للمجهول، وللكشميهني والنسفي " ولم يذكر سحور " قال الزين بن المنير: الاستدلال على الحكم إنما يفتقر إليه إذا ثبت الاختلاف أو كان متوقعا، والسحور إنما هو أكل للشهوة وحفظ القوة، لكن لما جاء الأمر به احتاج أن يبين أنه ليس على ظاهره من الإيجاب، وكذا النهي عن الوصال يستلزم الأمر بالأكل قبل طلوع الفجر. انتهى. وتعقب بأن النهي عن الوصال إنما هو أمر بالفصل بين الصوم والفطر، فهو أعم من الأكل آخر الليل فلا يتعين السحور، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ندبية السحور. وقال ابن بطال: في هذه الترجمة غفلة من البخاري لأنه قد أخرج بعد هذا حديث أبي سعيد " أيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر " فجعل غاية الوصال السحر وهو وقت السحور، قال: والمفسر يقضي على المجمل، انتهى. وقد تلقاه جماعة بعده بالتسليم، وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأن البخاري لم يترجم على عدم مشروعية السحور وإنما ترجم على عدم إيجابه. وأخذ من الوصال أن السحور ليس بواجب، وحيث نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال لم يكن على سبيل تحريم الوصال وإنما هو نهي إرشاد لتعليله إياه بالإشفاق عليهم، وليس في ذلك إيجاب للسحور، ولما ثبت أن النهي عن الوصال للكراهة فضد نهي الكراهة الاستحباب فثبت استحباب السحور، كذا قال. ومسألة الوصال مختلف فيها، والراجح عند الشافعية التحريم. والذي يظهر لي أن البخاري أراد بقوله " لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا الخ " الإشارة إلى حديث أبي هريرة الآتي بعد خمسة وعشرين بابا فيه بعد النهي عن الوصال أنه " واصل بهم يوما ثم يوما، ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم " فدل ذلك على أن السحور ليس بحتم، إذ لو كان حتما ما واصل بهم فإن الوصال يستلزم ترك السحور سواء قلنا الوصال حرام أو لا، وسيأتي الكلام على اختلاف العلماء في حكم الوصال وعلى حديث ابن عمر أيضا في الباب المشار إليه إن شاء الله تعالى. وقوله "أظل " بفتح الهمزة والظاء القائمة المعجمة مضارع ظللت إذا عملت بالنهار، وسيأتي هناك بلفظ " أبيت " وهو دال على أن استعمال أظل هنا ليس مقيدا بالنهار. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً الشرح: قوله (تسحروا فإن في السحور بركة) هو بفتح السين وبضمها، لأن المراد بالبركة الأجر والثواب فيناسب الضم لأنه مصدر بمعنى التسحر، أو البركة لكونه يقوي على الصوم وينشط له ويخفف المشقة فيه فيناسب الفتح لأنه ما يتسحر به، وقيل البركة ما يتضمن من الاستيقاظ والدعاء في السحر، والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة، وهي اتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوى به على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام. قال ابن دقيق العيد: هذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخروية فإن إقامة السنة يوجب الأجر وزيادته، ويحتمل أن تعود إلى الأمور الدنيوية كقوة البدن على الصوم وتيسيره من غير إضرار بالصائم. قال: ومما يعلل به استحباب السحور المخالفة لأهل الكتاب لأنه ممتنع عندهم، وهذا أحد الوجوه المقتضية للزيادة في الأجور الأخروية. وقال أيضا: وقع للمتصوفة في مسألة السحور كلام من جهة اعتبار حكم الصوم وهي كسر شهوة البطن والفرج، والسحور قد يباين ذلك. قال: والصواب أن يقال ما زاد في المقدار حتى تنعدم هذه الحكمة بالكلية فليس بمستحب كالذي صنعه المترفون من التأنق في المآكل وكثرة الاستعداد لها، وما عدا ذلك تختلف مراتبه. (تكميل) : يحصل السحور بأقل ما يتناوله المرء من مأكول ومشروب. وقد أخرج هذا الحديث أحمد من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ " السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين " ولسعيد بن منصور من طريق أخرى مرسلة " تسحروا ولو بلقمة". *3* وَقَالَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ عِنْدَكُمْ طَعَامٌ فَإِنْ قُلْنَا لَا قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الشرح: قوله: (باب إذا نوى بالنهار صوما) أي هل يصح مطلقا أو لا؟ وللعلماء في ذلك اختلاف، فمنهم من فرق بين القرض والنفل، ومنهم من خص جواز النفل بما قبل الزوال، وسيأتي بيان ذلك. قوله: (وقالت أم الدرداء كان أبو الدرداء يقول: عندكم طعام؟ فإن قلنا لا قال: فإني صائم يومي هذا) وصله ابن أبي شيبة من طريق أبي قلابة عن أم الدرداء قالت " كان أبو الدرداء يغدونا أحيانا ضحى فيسأل الغداء، فربما لم يوافقه عندنا فيقول: إذا أنا صائم " وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي إدريس وعن أيوب عن أبي قلابة عن أم الدرداء، وعن معمر عن قتادة " أن أبا الدرداء كان إذا أصبح سأل أهله الغداء، فإن لم يكن قال: أنا صائم"، وعن ابن جريج عن عطاء عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أنه " كان يأتي أهله حين ينتصف النهار " فذكر نحوه، ومن طريق شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أنه " كان ربما دعا بالغداء فلا يجده، فيفرض عليه الصوم ذلك اليوم". قوله: (وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة) أما أثر أبي طلحة فوصله عبد الرزاق من طريق قتادة وابن أبي شيبة من طريق حميد كلاهما عن أنس، ولفظ قتادة " أن أبا طلحة كان يأتي أهله فيقول: هل من غداء؟ فإن قالوا لا صام يومه ذلك " قال قتادة: وكان معاذ بن جبل يفعله، ولفظ حميد نحوه وزاد " وإن كان عندهم أفطر " ولم يذكر قصة معاذ. وأما أثر أبي هريرة فوصله البيهقي من طريق ابن أبي ذئب عن حمزة عن يحيى عن سعيد بن المسيب قال " رأيت أبا هريرة يطوف بالسوق، ثم يأتي أهله فيقول: عندكم شيء؟ فإن قالوا لا قال: فأنا صائم " ورواه عبد الرزاق بسند آخر فيه انقطاع أن أبا هريرة وأبا طلحة فذكر معناه. وأما أثر ابن عباس فوصله الطحاوي من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أنه " كان يصبح حتى يظهر ثم يقول: والله لقد أصبحت وما أريد الصوم، وما أكلت من طعام ولا شراب منذ اليوم، ولأصومن يومي هذا " وأما أثر حذيفة فوصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة من طريق سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال حذيفة " من بدا له الصيام بعد ما تزول الشمس فليصم " وفي رواية ابن أبي شيبة " أن حذيفة بدا له في الصوم بعدما زالت الشمس فصام " وقد جاء نحو ما ذكرنا عن أبي الدرداء مرفوعا من حديث عائشة أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة عن عمته عائشة بنت طلحة. وفي رواية له " حدثتني عائشة بتت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا لا. قال: فإني إذا صائم " الحديث. ورواه النسائي والطيالسي من طريق سماك عن عكرمة عن عائشة نحوه ولم يسم النسائي عكرمة. قال النووي: في هذا الحديث دليل للجمهور في أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل زوال الشمس، وتأوله الآخرون على أن سؤاله " هل عندكم شيء " لكونه كأن نوى الصوم من الليل ثم ضعف عنه وأراد الفطر لذلك. قال: وهو تأويل فاسد وتكلف بعيد. وقال ابن المنذر: اختلفوا فيمن أصبح يريد الإفطار، ثم بدا له أن يصوم تطوعا. فقالت طائفة: له أن يصوم متى بدا له، فذكر عمن تقدم، وزاد ابن مسعود وأبا أيوب وغيرهما، وساق ذلك بأسانيده إليهم. قال: وبه قال الشافعي وأحمد، قال: وقال ابن عمر " لا يصوم تطوعا حتى يجمع من الليل أو يتسحر " وقال مالك في النافلة " لا يصوم إلا أن يبيت، إلا إن كان يسرد الصوم فلا يحتاج إلى التبييت " وقال أهل الرأي: من أصبح مفطرا ثم بدا له أن يصوم قبل منتصف النهار أجزأه، وإن بدا له ذلك بعد الزوال لم يجزه. قلت: وهذا هو الأصح عند الشافعية، والذي نقله ابن المنذر عن الشافعي من الجواز مطلقا سواء كان قبل الزوال أو بعده هو أحد القولين للشافعي، والذي نص عليه في معظم كتبه التفرقة، والمعروف عن مالك والليث وابن أبي ذئب أنه لا يصح صيام التطوع إلا بنية من الليل. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا يَأْكُلْ الشرح: قوله: (عن سلمة بن الأكوع) في رواية يحيى وهو القطان " عن يزيد بن أبي عبيد حدثنا سلمة بن الأكوع " كما سيأتي في خبر الواحد. قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في الناس) في رواية يحيى " قال لرجل من أسلم أذن في قومك " واسم هذا الرجل هند بن أسماء بن حارثة الأسلمي له ولأبيه ولعمه هند بن حارثة صحبة، أخرج حديثه أحمد وابن أبي خيثمة من طريق ابن إسحاق " حدثني عبد الله بن أبي بكر عن حبيب ابن هند بن أسماء الأسلمي عن أبيه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومي من أسلم فقال: مر قومك أن يصوموا هذا اليوم يوم عاشوراء، فمن وجدته منهم قد أكل في أول يومه فليصم آخره " وروى أحمد أيضا من طريق عبد الرحمن بن حرملة عن يحيى بن هند قال: وكان هند من أصحاب الحديبية وأخوه الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر قومه بالصيام يوم عاشوراء، قال " فحدثني يحيى بن هند عن أسماء ابن حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه فقال: مر قومك بصيام هذا اليوم. قال أرأيت إن وجدتهم قد طعموا؟ قال: فليتموا آخر يومهم " قلت: فيحتمل أن يكون كل من أسماء وولده هند أرسلا بذلك، ويحتمل أن يكون أطلق في الرواية الأولى على الجد اسم الأب فيكون الحديث من رواية حبيب بن هند عن جده أسماء فتتحد الروايتان، والله أعلم. واستدل بحديث سلمة هذا على صحة الصيام لمن لم ينوه من الليل سواء كان رمضان أو غيره لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم في أثناء النهار فدل على أن النية لا تشترط من الليل، وأجيب بأن ذلك يتوقف على أن صيام عاشوراء كان واجبا، والذي يترجح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضا، وعلى تقدير أنه كان فرضا فقد نسخ بلا ريب، فنسخ حكمه وشرائطه، بدليل قوله " ومن أكل فليتم " ومن لا يشترط النية من الليل لا يجيز صيام من أكل من النهار، وصرح ابن حبيب من المالكية بأن ترك التبييت لصوم عاشوراء من خصائص عاشوراء، وعلى تقدير أن حكمه باق فالأمر بالإمساك لا يستلزم الإجزاء فيحتمل أن يكون أمر بالإمساك لحرمة الوقت كما يؤمر من قدم من سفر في رمضان نهارا وكما يؤمر من أفطر يوم الشك ثم رأى الهلال، وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء، بل ورد ذلك صريحا في حديث أخرجه أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا. قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه " وعلى تقدير أن لا يثبت هذا الحديث في الأمر بالقضاء فلا يتعين ترك القضاء، لأن من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء كمن بلغ أو أسلم في أثناء النهار. واحتج الجمهور لاشتراط النية في الصوم من الليل بما أخرجه أصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر عن أخته حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له " لفظ النسائي، ولأبي داود والترمذي " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " واختلف في رفعه ووقفه، ورجح الترمذي والنسائي الموقوف بعد أن أطنب النسائي في تخريج طرقه، وحكى الترمذي في " العلل " عن البخاري ترجيح وقفه. وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة فصححوا الحديث المذكور، منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن حزم، وروى له الدار قطني طريقا آخر وقال رجالها ثقات، وأبعد من خصه من الحنفية بصيام القضاء والنذر، وأبعد من ذلك تفرقة الطحاوي بين صوم الفرض إذا كان في يوم بعينه كعاشوراء فتجزئ النية في النهار، أو لا في يوم بعينه كرمضان فلا يجزئ إلا بنية من الليل، وبين صوم التطوع فيجزئ في الليل وفي النهار. وقد تعقبه إمام الحرمين بأنه كلام غث لا أصل له. وقال ابن قدامة: تعتبر النية في رمضان لكل يوم في قول الجمهور، وعن أحمد أنه يجزئه نية واحدة لجميع الشهر؛ وهو كقول مالك وإسحاق. وقال زفر يصح صوم رمضان في حق المقيم الصحيح بغير نية وبه قال عطاء ومجاهد، واحتج زفر بأنه لا يصح فيه غير صوم رمضان لتعينه فلا يفتقر إلى نية لأن الزمن معيار له فلا يتصور في يوم واحد إلا صوم واحد. وقال أبو بكر الرازي: يلزم قائل هذا أن يصحح صوم المغمى عليه في رمضان إذا لم يأكل ولم يشرب لوجود الإمساك بغير نية، قال: فإن التزمه كان مستشنعا. وقال غيره: يلزمه أن من أخر الصلاة حتى لم يبق من وقتها إلا قدرها فصلى حينئذ تطوعا أنه يجزئه عن الفرض. واستدل ابن حزم بحديث سلمة على أن من ثبت له هلال رمضان بالنهار جاز له استدراك النية حينئذ ويجزئه وبناه على أن عاشوراء كان فرضا أولا، وقد أمروا أن يمسكوا في أثناء النهار. قال: وحكم الفرض لا يتغير، ولا يخفى ما يرد عليه مما قدمناه، وألحق بذلك من نسى أن ينوي من الليل لاستواء حكم الجاهل والناسي.
|